اقتصادكم – سعد مفكير
في كل دورة برلمانية، تعود ميزانية الدولة إلى واجهة النقاش السياسي والاقتصادي، محمّلة بتحديات تزايد الحاجيات وتقلّص الموارد، ومتطلبة قرارات حاسمة تعكس توجهات الدولة واختياراتها الاجتماعية والاقتصادية. وبين طموحات الإصلاح وضغوط الواقع، تجد لجان المالية نفسها في قلب معادلة دقيقة، مطالبة بممارسة دور رقابي وتشريعي فاعل، لا يقتصر على قراءة الأرقام، بل يتجاوزها إلى مساءلة منطق توزيع الموارد ومدى استجابته لأولويات المواطنين وخصوصيات المرحلة.
فأي دور فعلي تلعبه هذه اللجان في ضبط التوازن بين متطلبات التنمية والإكراهات المالية؟ وكيف تترجم تدخلاتها الرقابية والتعديلية إلى أدوات لإعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية والاجتماعية؟ وهل تتحول إلى قوة اقتراحية حقيقية، أم تبقى رهينة الاعتبارات السياسية والحسابات الحزبية؟
في هذا التقرير، نفتح ملف ميزانية الدولة تحت مجهر البرلمان، من خلال تتبع آليات اشتغال لجان المالية، واستقصاء آراء فاعلين برلمانيين وخبراء اقتصاديين، لرصد حدود التأثير، وممكنات التغيير، في لحظة وطنية تطالب بمزيد من النجاعة، والعدالة، والشفافية، خاصة وأن المغرب مقبل على تحديات مالية ضخمة رهينة باستعداده لتنظيم نهائيات كأس العالم 2030 رفقة البرتغال وإسبانيا.
لجان المالية بالبرلمان بين الرقابة التشريعية وتوجيه السياسات
حددت المادة 55 من القانون الداخلي لمجلس النواب على أن لجنة المالية والتنمية الاقتصادية، تعد من اللجان الدائمة وتتكون من 44 عضوا و حدد لها القانون الاختصاصات التالية: المالية، الاستثمار، تأهيل الاقتصاد، الخوصصة، المؤسسات العمومية، الشؤون العامة والاقتصاد الاجتماعي.
وأوضح كمال الهشومي أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري بكلية الحقوق أكدال–الرباط، في تصريح لموقع "اقتصادكم" أنه على الأساس الدستوري والتشريعي، ينص الفصل 75 من الدستور 2011 أن البرلمان يصوّت على قانون المالية، ويحدد فيه مضمونه، ومسطرة التصويت عليه، والآجال المرتبطة به. وتُناط مناقشة القانون المالي، بصفة أولية، بلجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب وبلجنة المالية والتخطيط والتنمية الاقتصادية بمجلس المستشارين، طبقًا لأنظمة المجلسين.
من حيث الصلاحيات الفعلية فتنقسم إلى مناقشة تفصيلية تقوم خلالها لجان المالية بمناقشة الجزء الأول من مشروع قانون المالية (المتعلق بالتوازنات العامة، الضرائب، الموارد، العجز… إلخ)، وكذا الجزء الثاني المتعلق بالميزانيات القطاعية. ثم تقديم التعديلات حيث يمكن لأعضاء اللجنة اقتراح تعديلات على مختلف مواد المشروع، وفق شروط محددة في النظامين الداخليين (تقديم مكتوب، احترام الآجال، موافقة الحكومة إذا كان التعديل يؤدي إلى خفض الموارد أو رفع النفقات – وفقًا للفصل 77 من الدستور). ثم ما يسمى بالرقابة التقنية والسياسية حيث تمارس اللجان نوعًا من الرقابة الدقيقة على الأرقام والمخصصات، وتستدعي مسؤولي القطاعات الوزارية لمساءلتهم حول مدى نجاعة برامجهم.
بخصوص الحدود الدستورية والسياسية، أشار الهشومي إلى القيود المالية الدستورية التي تتمثل اساساً في الفصل 77 من الدستور الذي يُقيّد حق التعديل، إذ ينص على أنه لا يجوز للبرلمان، أثناء مناقشة مشروع قانون المالية، أن يُحدث أو يعدل موارد عمومية أو أن يُحدث تكليفًا عموميًا إلا بموافقة الحكومة. ومن جهة الأخرى فان الممارسة السياسية تبين انه غالبًا ما تَحول الأغلبية الحكومية دون تمرير تعديلات جوهرية لا تحظى برضا الحكومة، مما يُقلص فعليًا من هامش التأثير التشريعي للمعارضة داخل هذه اللجان.
إعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية والاجتماعية
من حيث المبدأ، يضيف الأستاذ الجامعي، تلعب هذه اللجان دورًا فعليًا في إعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية والاجتماعية، ولكن بشروط، فنظريًا، تتيح اللجان المختصة الفرصة للبرلمانيين، خصوصًا عند مناقشة المشاريع القطاعية، لإعادة طرح قضايا الأولويات في التوزيع الجهوي أو القطاعي للنفقات. وعمليًا، لا يتم غالبًا إعادة ترتيب الأولويات الكبرى (كالبنيات التحتية، التوجهات الجبائية، العدالة الاجتماعية…) بسبب قوة الحكومة في تحديد الخيارات الكبرى، التي تُعدّ سلفًا في إطار إعداد المشروع من طرف وزارة الاقتصاد والمالية.
ومن حيث آليات التأثير الممكنة فيتم ذلك عبر التعديلات المدروسة التي لا تتطلب تكاليف إضافية ومن خلال الضغط السياسي والإعلامي الذي قد يدفع الحكومة لتعديل بعض الخيارات أو باستعمال تقارير اللجان كأداة لمساءلة الحكومة خلال جلسات المناقشة العامة في الجلسة العامة.
لكن رغم ذلك، يشير الهشومي، يمكن الحديث عن حدود هذا التأثير المتمثل أساسا في ضعف القدرات التقنية لبعض النواب والمستشارين في مجالات الاقتصاد والمالية العمومية، ووجود أغلبية منسجمة مع الحكومة تجعل غالبًا النقاش محكومًا بتوجهات مسبقة. ثم يمكن الاشارة كذلك إلى قصر الزمن التشريعي المخصص للمصادقة على القانون المالي (المنصوص عليه بدقة في الدستور)، مما يحدّ في اعتقاد الأستاذ الجامعي، من عمق النقاش.
التفاعل بين الحكومة والبرلمان خلال مناقشة الميزانية
أورد المتحدث ذاته، في تصريح لموقع "اقتصادكم"، أنه من جانب الإطار المؤسساتي؛ تُقدّم الحكومة، من خلال وزير الاقتصاد والمالية، مشروع قانون المالية أمام مجلسي البرلمان، ويدلي الوزير بتصريح يشرح فيه التوجهات العامة، ويخضع للمناقشة. بعد ذلك تُنظَّم جلسات استماع للوزراء المعنيين أمام اللجان البرلمانية لتقديم مشاريع الميزانيات القطاعية. ويكون هناك تفاعل مباشر بين النواب والوزراء، باللجان تفاعل تقني: يتمثل في تقديم الشروحات والملاحظات، وتوضيح الاختيارات المالية. ثم التفاعل السياسي، حيث تستغل المعارضة المناسبة لمهاجمة اختيارات الحكومة، بينما تسعى الأغلبية إلى الدفاع عنها أو التأثير عليها لصالح دوائرها. لنصل ما يسمى بالتفاعل التفاوضي، اذ أحيانًا تقبل الحكومة ببعض التعديلات التوافقية، خصوصًا إذا لم تمس بالتوازنات العامة أو تُحدث تكاليف إضافية. ويظل هذا التفاعل في حدود مرسومة غلبا تجعل الحكومة تمسك بحق الفيتو الضمني على أي تعديل غير مرغوب فيه. وفي إطار زمني ضيق للمصادقة. ثم يمكن الشارة كذلك الى محدودية دور مجلس المستشارين، الذي لا يملك الكلمة الأخيرة في المشروع حيث تعطي المادة 84 من الدستور، الكلمة الأخيرة لمجلس النواب في حال الخلاف.
عامة يمكن أن نخلص، يضيف الهشومي، إلى كون لجان المالية تشكل فضاءً مهمًا للنقاش والمساءلة، لكنها تظل محدودة الصلاحيات بسبب قيود دستورية (الفصل 77) وسياسية. وأن إعادة ترتيب الأولويات ليست من صلاحيات اللجان بشكل مباشر، ولكن يمكن التأثير فيها بوسائل غير مباشرة. وفي الأخير أن الحوار بين الحكومة والبرلمان خلال مناقشة قانون المالية يجمع بين البعد التقني والجدل السياسي، في إطار يحافظ على التوازن المؤسساتي دون الإخلال بسلطة الحكومة في تحديد التوجهات المالية العامة.
السياق العام: مناقشة الميزانية في ظل ظرفية اقتصادية دقيقة
يأتي مشروع قانون المالية لسنة 2025 في ظل تحديات اقتصادية كبيرة، سواء على المستوى الوطني أو الدولي. الهدف من هذا المشروع هو تعزيز ركائز الدولة الاجتماعية مع الحفاظ على التوازن المالي والاقتصادي. يتضمن المشروع العديد من الإجراءات والإصلاحات في مجالات مختلفة، مثل الجانب الضريبي، الحماية الاجتماعية، وتشجيع الاستثمار.
مالية 2025: إصلاحات ضريبية ونمو اجتماعي
وفقًا لمشروع قانون المالية، واصلت الحكومة العمل على تحسين الإيرادات الجبائية من خلال توسيع الوعاء الضريبي ومكافحة التهرب الضريبي. يشمل ذلك استيفاء الضرائب والرسوم المخصصة للدولة وللجماعات الترابية والهيئات العمومية. وعليه، تم تحديد عدة إصلاحات فيما يخص الضرائب غير المباشرة والرسوم الجمركية، مما سيؤدي إلى زيادة متوقعة في الموارد العامة.
هناك توقع بزيادة إيرادات الضرائب المباشرة وغير المباشرة بنسبة 4% مقارنة بسنة 2024، مع استمرار فرض رسوم جمركية على واردات معينة وتخفيف الرسوم على بعض المنتجات مثل اللحوم المستوردة والأدوية.
كما يهدف المشروع إلى تقليص العجز المالي من خلال تحسين كفاءة الإنفاق العمومي وإدارة الدين العام. من المتوقع أن تستمر الدولة في اللجوء إلى الاقتراض لتمويل المشاريع الكبرى، مع التركيز على تحسين أداء القطاعات الحيوية. فمن المتوقع أن يصل العجز المالي إلى 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي في سنة 2025، وأن يصل الدين العام إلى 75% من الناتج المحلي الإجمالي، مع تركيز الجهود على خفض نسبة العجز تدريجيًا.
كما أن تعزيز الحماية الاجتماعية يمثل أحد أبرز محاور مشروع قانون المالية 2025. تهدف الحكومة إلى توسيع نظام الحماية الاجتماعية ليشمل فئات جديدة من المواطنين، وتطوير برامج لدعم الفئات الهشة. يشمل المشروع تخصيص استثمارات ضخمة في البنية التحتية لتحفيز النمو الاقتصادي. فمن المتوقع أن يتم تخصيص 30% من الميزانية العامة لبرامج الحماية الاجتماعية وزيادة الاستثمارات في البنية التحتية بنسبة 10% مقارنة بسنة 2024، مع التركيز على مشاريع النقل والطاقة المتجددة.
من جهة أخرى، يولي مشروع قانون المالية أهمية كبيرة للاستثمار في الطاقات المتجددة، بهدف تعزيز الاستقلال الطاقي للمغرب وتقليل الانبعاثات الكربونية. ستُخصص استثمارات جديدة لمشاريع الطاقة الشمسية والريحية، مع توقع زيادة بنسبة 15% في الاستثمارات المخصصة لمشاريع الطاقة المتجددة مقارنة بالسنة السابقة، وخفض انبعاثات الكربون بنسبة 5% بحلول عام 2025 بفضل تعزيز استخدام الطاقات النظيفة.
مواصلة الإصلاحات وتحسين العدالة الضريبية
يعمل مشروع قانون المالية على مواصلة الإصلاحات الجبائية بهدف تحسين العدالة الضريبية وتخفيف العبء عن الشركات الصغرى والمتوسطة. كما يتضمن المشروع إجراءات لدعم الاقتصاد الوطني من خلال تسهيلات للمستثمرين وتبسيط الإجراءات الإدارية.
يتضمن مشروع قانون المالية لسنة 2025 مجموعة من المستجدات التي تهدف إلى تحسين العدالة الضريبية وتقليل العبء على الفئات المتوسطة والمنخفضة الدخل، حيث سيتم تعديل جدول حساب الضريبة على الدخل، إذ تم إعادة هيكلة الشرائح الضريبية لتخفيض العبء الضريبي على ذوي الدخل المتوسط والمنخفض. ووفقًا للمشروع، فإن الشريحة التي تصل إلى 40,000 درهم سنويًا ستكون معفاة بالكامل من الضريبة على الدخل.
ويكون جدول معدلات الضريبة الجديد كالآتي:
من 40,001 إلى 60,000 درهم: 10%
من 60,001 إلى 80,000 درهم: 20%
من 80,001 إلى 100,000 درهم: 30%
من 100,001 إلى 180,000 درهم: 34%
ما يزيد على 180,000 درهم: 37%
أما فيما يتعلق بالضريبة على الشركات، فإن مشروع قانون المالية لسنة 2025 يحتوي على العديد من المستجدات، بهدف تحسين العدالة الضريبية، تشجيع الاستثمار، وضمان التوازن بين الموارد المالية للدولة ومتطلبات النمو الاقتصادي.
أول هذه المستجدات هو إعادة هيكلة معدلات الضريبة على الشركات، حيث تسعى الحكومة إلى تقليل العبء الضريبي على الشركات الصغيرة والمتوسطة، مع الإبقاء على معدلات مرتفعة على الشركات الكبرى. يأتي هذا التوجه في إطار تشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة ودعمها لتعزيز دورها في الاقتصاد الوطني.
فالشركات الصغيرة والمتوسطة التي تحقق أرباحًا أقل من 300,000 درهم ستستفيد من تخفيض في معدلات الضريبة، مع فرض نسبة 10% على هذه الفئة. أما الشركات التي تحقق أرباحًا تتراوح بين 300,000 درهم و1,000,000 درهم، فستكون نسبة الضريبة عليها 20%، في حين أن الشركات الكبرى التي تحقق أرباحًا تفوق 1,000,000 درهم ستخضع لمعدل ضريبة يبلغ 30%.
ولتحفيز الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية مثل الصناعة والطاقة المتجددة، يقدم مشروع قانون المالية 2025 العديد من الإعفاءات الضريبية لهذه الشركات. ستتمتع المشاريع الصناعية والاستثمارات في الطاقة المتجددة بإعفاءات ضريبية لمدة خمس سنوات، وذلك بهدف تشجيع الاستثمار في هذه المجالات.
يشمل المشروع أيضًا إجراءات تهدف إلى توسيع الوعاء الضريبي من خلال إدماج بعض الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية ضمن النظام الضريبي، مع تحسين آليات المراقبة الجبائية وتقليل فرص التهرب الضريبي. يسعى المشروع إلى تحقيق عدالة ضريبية أكبر من خلال تخفيف العبء عن الشركات الصغيرة وتحميل الشركات الكبرى مسؤولية أكبر في تمويل ميزانية الدولة.
المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤطر مشروع قانون المالية
اعتبر علي الغنبوري رئيس مركز الاستشعار الاقتصادي والاجتماعي، في تحليل لموقع "اقتصادكم"، أن أبرز المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤطر مشروع قانون المالية الحالي ترتكز على عدة أولويات رئيسية، حيث تسعى الحكومة إلى تحقيق توازن بين تحفيز النمو الاقتصادي وتعزيز العدالة الاجتماعية، أولا هناك تركيز كبير على تعزيز ركائز الدولة الاجتماعية من خلال توسيع الحماية الاجتماعية وتطوير برامج دعم الفئات الهشة، مثل تعميم التغطية الصحية الإجبارية والتعويضات العائلية، وهو ما يعكس التزام الحكومة بتنفيذ التوجيهات الملكية لتحسين جودة الحياة حيث يتوقع أن يشمل النظام فئات جديدة من المواطنين، لا سيما في القطاع غير المهيكل.
ثانيا من الناحية الاقتصادية، يضيف المحلل الاقتصادي، يهدف مشروع القانون إلى تحقيق معدل نمو يصل إلى 4.6% في 2025، مع حصر التضخم عند 2%، وهي أهداف طموحة تتطلب تحسين نجاعة الإنفاق العمومي وتقليص العجز المالي إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي، كما يركز المشروع على تعزيز الاستثمار العمومي والخاص، بهدف خلق فرص شغل وتقليص الفوارق المجالية، وفي الوقت ذاته، هناك جهود لتحسين مناخ الأعمال والنهوض بالقطاعات الحيوية مثل التعليم العالي والبحث العلمي، مع التركيز على ملاءمة التكوين مع متطلبات سوق العمل، وهو ما يعكس رؤية شاملة تهدف إلى الجمع بين الاستدامة المالية والتنمية البشرية.
ومن جهتها أكدت خديجة الزومي، عضو الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية بمجلس النواب، في تصريح لموقع "اقتصادكم"، أن مشروع قانون المالية لسنة 2025 يرتكز على مؤشرات دقيقة ورؤية واقعية تعكس التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها بلادنا، وتستشرف في الوقت ذاته أفقًا تنمويًا واعدًا.
فعلى المستوى الاقتصادي، تم بناء المشروع على فرضية تحقيق نمو اقتصادي في حدود 4.6%، مع توقع محصول فلاحي في حدود 70 مليون قنطار، واستقرار أسعار غاز البوتان عند حوالي 500 دولار للطن. كما استهدف المشروع التحكم في معدل التضخم ليبقى في حدود 2%، من خلال مواصلة دعم أسعار المواد الأساسية كالدقيق المدعم والسكر وغاز البوتان.
أما على مستوى الاستثمار العمومي، فقد تم رصد ما يقارب 340 مليار درهم، وهو رقم يعكس الإرادة السياسية القوية لتسريع وتيرة إنجاز المشاريع الاستراتيجية الكبرى، خاصة تلك المرتبطة بالتحول الطاقي، وتطوير البنية التحتية استعدادًا لكأس العالم 2030، وتحفيز الاقتصاد الوطني على إحداث فرص الشغل.
وفي الجانب الاجتماعي، تضيف النائبة البرلمانية، كرّس المشروع توجه الدولة نحو ترسيخ الدعائم الاجتماعية، من خلال تخصيص 26.5 مليار درهم لتمويل برنامج الدعم المباشر للأسر، إضافة إلى 16.5 مليار درهم لصندوق المقاصة للحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين، وخاصة الفئات الهشة.
ولأول مرة، يتم رصد أكثر من 14 مليار درهم لدعم التشغيل، منها 12 مليارا لتشجيع الاستثمارات الموفرة لفرص الشغل، ومليار درهم موجه للعالم القروي. كما شكل المشروع فرصة لمواصلة تنزيل ورش تعميم الحماية الاجتماعية، سواء على مستوى التغطية الصحية أو الدعم الأسري، في احترام لأجندة الإصلاح التي يقودها جلالة الملك نصره الله.
وإجمالًا، فإن المشروع يتمحور حول أربع أولويات استراتيجية: تعزيز ركائز الدولة الاجتماعية، تحفيز الاستثمار والتشغيل، مواصلة الإصلاحات الهيكلية، والحفاظ على استدامة المالية العمومية.
وشددت الزومي، وهي عضو بلجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب حرص أعضاء اللجنة على مناقشة هذه التوجهات بكل جدية ومسؤولية، لضمان تحقيق التوازن بين متطلبات النمو الاقتصادي وضرورة الإنصاف الاجتماعي.
تأثير الظرفية العالمية على التوازنات الماكرو-اقتصادية للمغرب
لا شك أن الظرفية العالمية الراهنة تفرض تحديات متزايدة على الاقتصاد الوطني، وتؤثر بشكل مباشر على التوازنات الماكرو-اقتصادية للمغرب، وهو ما تترجمه بشكل واضح مفاتيح مشروع قانون المالية لسنة 2025، توضح الزومي التي أشارت إلى أن السياق الدولي يتميز بـ:
- تقلبات أسعار المواد الأولية والطاقة: على رأسها أسعار النفط والغاز، التي تشهد تذبذبا في كل وقت وحين نتيجة الصراعات الجيوسياسية (في أوكرانيا، الشرق الأوسط والبحر الأحمر...)، وكذلك الصراع التجاري بين القوى العظمى بشكل مفاجئ، مما يفرض ضغطًا متزايدًا على ميزانية الدعم وعلى ميزان الأداءات.
- استمرار آثار التضخم العالمي: الذي يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاستيراد وتراجع الطلب الخارجي، وهو ما ينعكس على الصادرات المغربية وعلى تنافسية القطاعات الإنتاجية.
- أزمات سلاسل الإمداد العالمية: وخاصة فيما يتعلق بالمواد الفلاحية والمدخلات الصناعية، وهو ما يخلق صعوبات في الاستيراد ويؤثر على الأداء الصناعي المحلي.
- تغير المناخ وتأثيره على الفلاحة: حيث أصبح المغرب يواجه توالي سنوات الجفاف، مما ينعكس على الناتج الداخلي الخام الفلاحي، وعلى مستوى النمو الاقتصادي العام، بالنظر إلى الوزن النسبي للفلاحة في الاقتصاد الوطني، ولا يفوتنا ان نحمد الله على أمطار الخير التي انقذت الموسم الفلاحي، ووفرت لنا ما يناهز سنة ونصف من مخزون المياه، مما سيساهم في تحسين المؤشرات الاقتصادية بحول الله.
هذه العوامل مجتمعة تؤثر بلا شك، حسب الزومي، على:
1. النمو الاقتصادي: الذي يبقى رهينًا بتقلبات مناخية وظرفية خارجية خارجة عن الإرادة الوطنية، وقد لاحظنا في السنوات الأخيرة تفاوتًا كبيرًا في نسب النمو بسبب ضعف الإنتاج الفلاحي أو تراجع الطلب العالمي على بعض القطاعات التصديرية.
2. عجز الميزانية: وذلك لأن ارتفاع أسعار المواد المدعمة يزيد من كلفة صندوق المقاصة، مما يضغط على الميزانية العامة، رغم المجهودات المبذولة لاحتواء العجز في حدود 4.5% من الناتج الداخلي الإجمالي في مشروع قانون المالية 2025.
3. الدين العمومي: فمن المعلوم أن السياق الدولي يفرض رفعًا لأسعار الفائدة عالميًا، مما يرفع كلفة التمويل الخارجي، في وقت تسعى فيه المملكة إلى تعبئة موارد إضافية لتمويل الاستثمار العمومي دون الإضرار باستدامة الدين.
4. العوامل المرتبطة بالعملة والتضخم: لأن سعر صرف الدرهم يتأثر ايجابا او سلبا بمرونة السوق وبالضغط الخارجي، خصوصًا في ظل ارتفاع كلفة الواردات. كما أن التضخم المستورد يبقى مصدر قلق، رغم مجهودات بنك المغرب في الحفاظ على استقرار الأسعار.
5. ميزان الأداءات: حيث يشكل ارتفاع فاتورة الاستيراد من الطاقة والمواد الغذائية تهديدًا على ميزان الأداءات، رغم تحسن تحويلات مغاربة العالم وتطور بعض الصادرات (كصناعة السيارات والفوسفاط).
ورغم هذه التحديات، ترى النائبة البرلمانية، في تصريح لموقع "اقتصادكم" أن الاقتصاد المغربي أبان عن مرونة كبيرة وقدرة فائقة على التكيف مع كل هذه المتغيرات، وذلك بفضل الإصلاحات الهيكلية التي تم إطلاقها، وتحسن مناخ الأعمال، وتوجيه الاستثمار العمومي نحو القطاعات ذات القيمة المضافة، إضافة إلى إطلاق ورش تعميم الحماية الاجتماعية، الذي يشكل بدوره درعًا واقيًا للفئات الهشة في مواجهة الصدمات الخارجية.
كما أكد الغنبوري بدوره لـ"اقتصادكم"، أن الظرفية العالمية تمثل تحديا كبيرا للاقتصاد المغربي، حيث تتأثر التوازنات الماكرو-اقتصادية بعدة عوامل خارجية، أولها تقلبات أسعار الطاقة والمواد الأولية في الأسواق العالمية تضع ضغوطا على ميزان الاداءات، سيما أن المغرب يعتمد بشكل كبير على استيراد الطاقة، و تزيد هذه التقلبات من كلفة الإنتاج وتؤثر على القطاعات التصديرية، مثل الفوسفاط، التي تتأثر بتذبذب الأسعار العالمية، ثانيا التغيرات المناخية لها تأثير مباشر على القطاع الفلاحي، الذي يظل رافعة أساسية للاقتصاد المغربي، حيث يؤدي الجفاف ونقص التساقطات إلى انخفاض المحاصيل الفلاحية، مما يؤثر على الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي.
إضافة إلى ذلك، الأزمات الجيوسياسية، مثل التوترات في أوروبا أو الشرق الأوسط، تؤثر على السياحة وتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، وهما مصدران مهمان للعملة الصعبة، وهذه العوامل مجتمعة تزيد من الضغط على المديونية العمومية، التي قد تصل إلى 75% من الناتج الداخلي الإجمالي في 2025، مما يتطلب سياسات مالية حذرة للحفاظ على الاستدامة، ورغم هذه التحديات، فقد أظهر المغرب مرونة ملحوظة، حيث مكنته سياساته الماكرو-اقتصادية الاحترازية من تجاوز أزمات سابقة بأقل الأضرار، كما أن ثقة المؤسسات المالية الدولية في السياسة الاقتصادية المغربية تدعم قدرته على تحقيق التوازن، لكن يظل التحدي الأكبر هو تحقيق نمو شامل ومستدام في ظل هذه الظروف المتقلبة.
الرقابة التشريعية: تتبع لجان المالية بالبرلمان لتنفيذ السياسات الحكومية المالية
تعد رقابة البرلمان على تنفيذ الميزانية من أبرز الآليات الدستورية التي تضمن الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة في تدبير المال العام، وتشكل لجان المالية داخل المؤسسة التشريعية في هذا السياق ركيزة أساسية لمتابعة مدى احترام الحكومة لأولويات السياسات التي تعلنها في برامجها.
تقييم الأداء الحكومي وآليات التتبع
وفي هذا الإطار، أكد محمد الحجيرة، رئيس لجنة مراقبة المالية العامة والحكامة، أن هذه اللجان تمتلك حزمة من الآليات الرقابية المتنوعة، التي تتيح لها تتبع تنفيذ الميزانية، بدءا من أدوات تقليدية كالأسئلة البرلمانية الكتابية والشفوية، والتي تسمح للنواب بالحصول على معطيات دقيقة حول تنفيذ السياسات القطاعية، وصولا إلى آليات مؤسساتية أعمق، كلجان تقصي الحقائق المنصوص عليها في الفصل 67 من الدستور، والتي تمكن البرلمان من الاطلاع على وثائق ومعطيات حساسة تتعلق بتدبير المصالح العمومية.
وبخصوص جلسات تقييم الأداء الحكومي، أوضح الحجيرة في تصريح لموقع "اقتصادكم"، أن الجلسة السنوية التي ينص عليها الفصل 101 من الدستور تعتبر مناسبة هامة لمساءلة الحكومة بشأن التزاماتها وتوجهاتها، وتشكل فرصة لتقويم سياساتها العمومية. كما أشار إلى أن قانون التصفية بدوره يعد محطة مفصلية، كونه يقدم تقريرا نهائيا حول تنفيذ قانون المالية، ويستخدم لتقييم مدى تطابق الإنفاق مع الأولويات المعلنة.
وأورد في السياق ذاته أن “تقارير المجلس الأعلى للحسابات تمثل أداة حيوية في تقييم أداء المؤسسات العمومية، حيث يعتمد البرلمان على خلاصاتها لتدعيم دوره الرقابي ومساءلة الحكومة بشأن تدبيرها للمالية العامة”، وهذه التقارير يوضح الحجيرة، لا تستخدم فقط لرصد اختلالات التدبير، بل تتيح كذلك اقتراح توصيات ملموسة لتحسين جودة الإنفاق العمومي ورفع فعاليته.
تحول نوعي في عمل لجنة مراقبة المالية
وفي سياق متصل، تعرف لجنة مراقبة المالية العامة منذ إحداثها سنة 2013 تطورا مؤسساتيا ملحوظا في أداء البرلمان الرقابي، وقد شرعت اللجنة في ممارسة مهامها ابتداء من دورة أبريل 2014، لتصبح مع مرور الوقت واحدة من أهم أدوات الشفافية المالية والمساءلة السياسية داخل المؤسسة التشريعية.
وفي هذا السياق، أفاد رئيس اللجنة، في حوار مع "اقتصادكم"، أن هذه الأخيرة تقوم بإعداد تقارير دقيقة تتضمن توصيات مهمة حول تدبير المال العام، تعرض لاحقا في جلسات عامة يستدعى فيها ممثلو الحكومة، مما يسمح بنقاش فعال وذي مصداقية.
وأضاف الحجيرة أن اللجنة تعتمد على برنامج عمل سنوي يبنى على اقتراحات الفرق والمجموعات النيابية، ويشمل قضايا ذات أولوية وطنية كالفوارق المجالية، الصناديق الخاصة، ونظام المقاصة.
وأورد موضحا أن التنسيق المتقدم مع المجلس الأعلى للحسابات مكن اللجنة من تطوير منهجية رقابية مبنية على تقارير موضوعاتية، ما عزز من عمق التحليل وحدة النقاش داخل البرلمان، وساهم في إرساء تكامل وظيفي واضح بين المؤسستين فيما يتعلق بتتبع المالية العمومية.
غياب استراتيجية تواصلية
وفي المقابل، لم يخف محمد الحجيرة وجود صعوبات تعرقل أداء اللجنة، وعلى رأسها تأخر تجاوب بعض القطاعات الوزارية مع دعوات الحضور، أو التأخر في تسليم الوثائق والتقارير، وخاصة تلك الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات. وأكد أن هذه العراقيل تضعف من دينامية العمل الرقابي، وتحد من فعالية اللجنة في التقييم اللحظي لسياسات الدولة.
وأشار أيضا إلى محدودية الموارد البشرية والدعم التقني داخل اللجنة، مع غياب بنية بحثية قارة تساعد النواب في تعميق التحليل ومراكمة الخبرة، ما يجعل الحاجة ملحة إلى تطوير آليات الاشتغال وتعزيز كفاءات الفرق البرلمانية.
ورغم التطور الملحوظ في أداء لجنة مراقبة المالية، إلا أن ضعف التواصل مع الرأي العام يظل نقطة قصور بارزة. وفي هذا الصدد، أكد الحجيرة أن “عدم تفعيل وظيفة التواصل داخل المؤسسة البرلمانية يعد من مكامن الضعف التي تعيق تحويل تقارير اللجنة إلى ضغط سياسي أو رأي عام فاعل، وهو ما يجب الاشتغال عليه ضمن رؤية متكاملة”.
ودعا رئيس لجنة مراقبة المالية العامة، إلى الربط بين المؤسسة التشريعية والصحافة والمجتمع المدني، لإحداث نقاش عمومي واسع حول اختيارات الدولة والتحديات المرتبطة بتنفيذ الميزانية.
الأولويات الاجتماعية والاقتصادية: هل تنعكس في الأرقام؟
مراحل توزيع الميزانية
وبعيدا عن قبة البرلمان، يرى عدد من الأكاديميين والخبراء الاقتصاديين أن فعالية الرقابة المالية تظل رهينة بفهم أعمق لمراحل عملية إعداد الميزانية والمنطق الذي يحكم توزيعها بين القطاعات. وفي هذا السياق، يعتبر بدر زاهر الأزرق، أستاذ جامعي، أن هذه العملية تمر عبر سلسلة من المراحل الدقيقة، التي تجمع بين الاعتبارات التقنية والخيارات السياسية.
وأوضح أن الانطلاقة تكون عادة من خلال ورقة تأطيرية يصوغها وزير المالية، تتضمن التوجيهات العامة والأولويات الوطنية، لتبدأ إثر ذلك مشاورات مكثفة بين الوزارة والقطاعات الوزارية المختلفة.
وأضاف الأزرق، في تصريح خص به موقع “اقتصادكم”، أن هذه النقاشات تؤدي إلى بلورة مشروع قانون المالية، الذي يعرض خلال شهري شتنبر وأكتوبر كذلك نونبر، لتتولى بعد ذلك لجان المالية دراسة تفاصيله واقتراح التعديلات الضرورية، في أفق المصادقة النهائية عليه.
ويبرز في هذه المرحلة بحسب الأزرق الدور المحوري للرقابة البرلمانية، من خلال تتبع التزامات الحكومة وتدقيق النفقات المقترحة، وصولا إلى محطة قانون التصفية، التي تختتم المسار السنوي وتتيح تقييما شاملا لكيفية تدبير الميزانية.
إصلاح الاستثمار العمومي
ومن جانب آخر، أكد بدر الأزرق أن مقاربة الاستثمار العمومي تشهد تحولا نوعيا في المغرب، مع اعتماد الميثاق الجديد للاستثمار، الذي يهدف إلى توسيع قاعدة الاستفادة وتعزيز الأثر الاقتصادي والاجتماعي للصفقات العمومية. ولفت إلى أن الدولة تسعى اليوم إلى إشراك المقاولات الصغرى والمتوسطة والمقاولين الذاتيين في أوراش استراتيجية، خصوصا تلك المتعلقة بالبنية التحتية استعدادا لاحتضان تظاهرات دولية.
ويفترض أن تخصص نسبة 20 في المائة من الصفقات العمومية لهذه الفئات، غير أن تحقيق هذا الهدف لا يزال محدودا على أرض الواقع، وهو ما يستدعي حسب الأزرق آليات مواكبة حقيقية، سواء من حيث التمويل أو التأهيل الإداري والتقني لهذه المقاولات.
ويؤكد الأستاذ الجامعي أن هذا التوجه يمثل فرصة حقيقية لإنعاش القطاع الخاص الوطني، وإرساء عدالة مجالية جديدة، من خلال توزيع متوازن للاستثمارات على مختلف الجهات، مشددا على أهمية تتبع تنفيذ هذا التحول على مستوى البرلمان، لضمان احترام الأولويات المعلنة.