اقتصادكم - نهاد بجاج
يراهن مشروع قانون المالية لسنة 2026 على تحقيق معادلة صعبة، رفع وتيرة النمو الاقتصادي مع الحفاظ على صرامة في إدارة التوازنات الماكرو اقتصادية وخفض العجز، في ظرفية دولية ومحلية تتسم بعدم اليقين، وبين الطموح المسطر في الوثيقة المالية وتحديات الواقع، تتباين القراءات، بينما تتفق الآراء حول أن المغرب يواجه مرحلة دقيقة تتطلب إصلاحات هيكلية أعمق لضمان نمو مستدام.
يرتكز مشروع قانون المالية على أربع أولويات كبرى تتمثل في تعزيز إقلاع اقتصادي جديد، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، وتكريس أسس الدولة الاجتماعية، مع الحفاظ على توازن المالية العمومية، وفي هذا الإطار تم تخصيص 140 مليار درهم لقطاعي الصحة والتعليم، بزيادة 21 مليار درهم مقارنة مع 2025، إلى جانب إحداث أكثر من 27 ألف منصب مالي جديد، في خطوة تؤكد مركزية الاستثمار الاجتماعي في رؤية الحكومة.
ومن جهته يرى يوسف كراوي الفيلالي، خبير اقتصادي، في تصريح لموقع "اقتصادكم"، أن المشروع يتجاوز البعد التقني للميزانية ليصبح وثيقة للتوجيه الاستراتيجي، معتبرا أن الحكومة تحاول المواءمة بين الصرامة المالية والإصلاحات الاجتماعية ذات الأثر الواسع، عبر مقاربة توازن بين الاستمرارية والتجديد.
الفرضيات الماكرو اقتصادية بين الطموح والواقعية
وبينما تبدو الفرضيات الماكرو اقتصادية التي جاء بها مشروع قانون المالية طموحة، فإن نجاحها يظل رهينا بقدرة الحكومة على تسريع وتيرة الإصلاح الجبائي، وتنويع مصادر النمو، وتوجيه الاستثمار نحو القطاعات الأكثر قدرة على إحداث القيمة، إضافة إلى ضمان استدامة تمويل الدولة الاجتماعية دون المساس بالتوازنات الأساسية.
ويبرز هذا التوجه في ضوء الدينامية التي عرفتها الأنشطة غير الفلاحية خلال السنتين الأخيرتين، خاصة في القطاعات الصناعية والخدماتية، إلى جانب المساهمة القوية لقطاع الأشغال والبناء الذي تمكن من إحداث حوالي 90 ألف منصب شغل ما بين الفصل الثالث من 2024 والفصل الثالث من 2025|، هذه المؤشرات تعكس أساسا قدرة الاقتصاد الوطني على الحفاظ على زخم إيجابي خارج الفلاحة، لكنها في الوقت نفسه تتطلب إصلاحات هيكلية أعمق لضمان استمرارها واستدامتها.
ويعتبر الخبير الاقتصادي، أن الوصول إلى عجز في حدود %3 من الناتج الداخلي الإجمالي يظل هدفا واقعيا بالنظر إلى اعتماد الدولة خلال السنوات الأربع الأخيرة سياسة مالية احترازية مكنت من الحفاظ على التوازنات الكبرى، إضافة إلى التحكم النسبي في النفقات بفضل سياسات ترشيد أكثر وضوحا.
ويرى المتحدث ذاته، أن هذا الهدف يجد دعمه أيضا في توجه المغرب نحو تنويع مصادر التمويل دون الإفراط في اللجوء إلى الاقتراض الخارجي، وهو ما ساعد في الحد من الضغوط على الميزانية.
كما يشير إلى أن بلوغ مستوى عجز في هذا الحد يشكل استجابة إيجابية لتوصيات المؤسسات الدولية ووكالات التنقيط الائتماني، بما يعزز ثقة المستثمرين ويحافظ على تصنيف المغرب، ويفتح المجال أمام خيارات أوسع لتمويل المشاريع الاستراتيجية دون المساس باستدامة المالية العمومية.
دينامية الاستثمار ودور الجباية في دعم النمو
ويرى الخبير، أن الاستثمار العمومي الذي يقدر بـ380 مليار درهم، سيظل رافعة أساسية لدعم الطلب الداخلي وإحداث فرص الشغل، خصوصا في إطار الأوراش الكبرى التي يستعد لها المغرب وعلى رأسها تنظيم كأس العالم 2030، غير أنه يعتبر أن الحفاظ على فعالية هذه الدينامية يتطلب نظاما ضريبيا أكثر عدلا وقدرة على دعم الإنتاج الوطني بدل الاعتماد المفرط على الاقتراض لتمويل الدولة الاجتماعية.
ويؤكد كراوي الفيلالي، أن توسيع الوعاء الجبائي والرفع من الإنتاجية وتحسين شروط المنافسة تعتبر عناصر حاسمة لمواكبة هذا التحول وضمان استدامته، كما يرى أن نجاح ورش تعميم الحماية الاجتماعية لن يتحقق فقط بزيادة النفقات، بل بتقليص البطالة وتوسيع قاعدة المنخرطين بما يسمح برفع الموارد المستدامة دون الضغط على الميزانية.
يقدم مشروع قانون المالية لسنة 2026 رؤية تقوم على السعي إلى تحقيق توازن دقيق بين الصرامة المالية والنمو الشامل، عبر الحفاظ على التوازنات الأساسية دون تعطيل الاستثمار أو الإصلاحات الاجتماعية، ويبدو أن الرهان الأكبر يكمن في قدرة الحكومة على تحويل هذه الفرضيات إلى واقع، عبر تحقيق نمو فعلي يفوق وتيرة ارتفاع النفقات وضمان جباية أكثر دينامية واستثمار أكثر مردودية بما يخدم بناء اقتصاد أكثر صمودا وقدرة على إحداث القيمة والفرص.