اقتصادكم - سعد مفكير
تسببت مجموعة من العوامل الاقتصادية والمالية والجيوسياسية في ارتفاع حجم الديون الحكومية في العالم إلى مستوى غير مسبوق، وفي المغرب بلغ حجم الدين العمومي المباشر 1016 مليار درهم خلال نهاية سنة 2023، مسجلا ارتفاعا بنسبة 6.8 في المئة مقاربة بالسنة الفارطة، وهو ما يعادل 69.5 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي.
الدين العالمي والتضخم وارتفاع أسعار الفائدة
سجل العالم رقما قياسيا جديدا، بعدما كسر حاجز 97 تريليون دولار وهو ما يعادل 94.4% من إجمالي الناتج العالمي، حسب بيانات صندوق النقد الدولي، وسط توقعات بانخفاضه إلى ما يعادل 94.1% خلال العام المقبل.
وارتفعت قيمة الديون الإجمالية العالمية التي تشمل ديون الشركات والأفراد والأسر إلى 220 تريليون دولار، أي ما يعادل 250% من إجمالي الناتج العالمي، حيث تحتل الولايات المتحدة المركز الأول بـ31.8 تريليون دولار، تليها الصين بقيمة 15.5 تريليون دولار ثم اليابان بقيمة 12.9 تريليون دولار، وعربيا تتصدر مصر القائمة بـ409.5 مليارات دولار، تليها السعودية 250.7 مليار دولار والإمارات 158.9 مليار دولار، والجزائر 109.6 مليارات دولار، والعراق خامساً 104.1 مليارات دولار ثم المغرب، حسب بيانات صندوق النقد الدولي لسنة 2022.
وفي عام 2022، بلغ الدين العام الإفريقي 1,8 تريليون دولار مسجلاً قفزة بنسبة 183% عن عام 2010، بعد أن نما بمعدل أربعة أضعاف أكثر من الناتج الاقتصادي، وفقا لأرقام الأمم المتحدة، كما قدر البنك الدولي العام الماضي أن 22 دولة معرضة لخطر الإفراط في المديونية، بما في ذلك غانا وزامبيا اللتين تخلفتا عن سداد ديونهما الخارجية.
ودعا صندوق النقد الحكومات لممارسة ضبط النفس المالي للحفاظ على المالية العامة السليمة، بينما يرى خبراء أن الدين الخارجي الذي يخصص عادة للاستثمار لا يشكل خطرا، لكن في حال تخصيصه للنفقات يكون مقلقا.
يعتبر التضخم العالمي وارتفاع أسعار الفائدة، من العوامل الكبرى التي ساهمت في ارتفاع الدين العمومي، حيث بدأت العديد من الدول برفع أسعار الفائدة لكبح جماحه بما فيها المغرب (ارتفع سعر الفائدة الرئيسي من 1,5٪ إلى 3٪)، مما شكل ضغطا على البلدان ذات الديون المرتفعة مع زيادة تكلفة خدمة الدين، بالإضافة إلى تقلبات الأسواق المالية.
ولا يعتبر ارتفاع حجم الدين العمومي في المغرب حالة خاصة، إذ شهدت العديد من الدول في المنطقة والعالم ارتفاعًا مماثلًا في أعباء الدين العام نتيجة للتداعيات الاقتصادية والاجتماعية للأزمات المتعددة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة (الجائحة، الحروب، التضخم، ...).
عوامل أدت إلى ارتفاع الدين العمومي في المغرب
وفي المغرب، ارتفع المكون الخارجي للدين العمومي بنسبة 10.8 في المئة ببلوغه 253.6 مليار، أي 17.3 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي مقابل 17.2 في المئة سنة من قبل، كما تراجع متوسط تكلفته من 3.5 في المئة إلى 3.2 في المئة بالنسبة لمكونه الداخلي وارتفع من 2.4 في المئة إلى 3.6 في المئة بالنسبة لمكونه الخارجي، حسب التقرير السنوي لبنك المغرب.
وبرر فوزي لقجع، الوزير المنتدب المكلف بالميزانية ارتفاع مؤشر المديونية ومعدل التضخم منذ 2021 بالسياقات العالمية الاقتصادية وما وصفه بـ”الحرب الجيوسياسية”، مبرزا أن الاقتصاد المغربي يرتبط بالأسواق العالمية والمتغيرات والتطورات التي تطرأ عليها.
وتعليقا عن هذه الأرقام، أوضح أمين سامي، المحلل الاقتصادي والخبير في التخطيط الاستراتيجي، في تحليله لهذه المعطيات لموقع "اقتصادكم"، أن هذا الدين العمومي يتوزع بين الدين الخارجي والدين الداخلي الذي يشكل الجزء الأكبر من الدين العمومي المغربي.
وأشار المتحدث ذاته إلى أنه لتحليل هذه المعطيات يجب النظر إلى العوامل الاقتصادية والمالية التي ساهمت في ذلك بشكل عام، وكذلك تأثيرات السياق الإقليمي والدولي، أولها التطورات الاقتصادية المحلية بحيث ارتفع مستوى الدين العمومي بالمغرب، وتجاوز عتبة 1000 مليار درهم وهذا يعكس تصاعد النفقات العمومية، خاصة في سياق جائحة كوفيد-19، وقد شملت هذه النفقات مجالات الصحة، والدعم الاجتماعي، والبنية التحتية، إضافة إلى الإصلاحات الاقتصادية التي عرفتها البلاد خلال فترة كورونا.
كما أن فترة كوفيد - 19 ، يضيف المحلل الاقتصادي في تصريح لموقع "اقتصادكم"، أثرت بشكل كبير على الاقتصاد الوطني وعلى الاستثمارات، حيث ساهم الجفاف أيضا في ارتفاع مستوى الدين العمومي، نتيجة التغيرات المناخية وبالتالي ساهم في أثر الزيادة على الدين المغربي.
وأَضاف أن الحكومة قامت بمجهودات كبيرة، في مجال الاستثمار من خلال إطلاق مشاريع تنموية جديدة (مشاريع البنية التحتية الأساسية والرقمية في مختلف جهات المملكة، بالإضافة إلى المشاريع المرتبطة بتنظيم كأس العالم 2030، مشاريع بناء محطات تحلية المياه، مشاريع القطار الفائق السرعة،....) ، من أجل تحسين مناخ الأعمال الوطني والترابي، وتبسيط المساطر الإدارية والقانونية والعديد من الإجراءات في هذا المجال.
خطورة حجم الدين العمومي وأهمية توظيفه
واعتبر أمين سامي أن هذا الارتفاع في حجم الدين العمومي غير مقلق و طبيعي حيث أنه مرتبط بحجم الاستثمارات والمشاريع الكبرى التي سيكون لها أثر اقتصادي واجتماعي على المغرب، وبالتالي هذا يعكس الجهود المبذولة من قبل المملكة لمواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة.
ومن جهته، يرى المحلل الاقتصادي محمد جدري أن المديونية في حد ذاتها لا تعتبر مسألة سيئة، بالنظر إلى أن نسبة المديونية في جميع الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو اليابان أو الهند أو فرنسا او إيطاليا أو ألمانيا، تقترب من 100% من الناتج الداخلي الخام أو تتجاوزه.
وركز محمد جدري، في حديثه مع موقع "اقتصادكم"، على أن الأمر يتعلق بتوظيف هذه المديونية، حيث أكد النموذج التنموي الجديد للمملكة المغربية أنه لا حرج في استعمال المديونية إذا كانت موجهة للاستثمارات التي تخلق الثروة وتحدث الكثير من مناصب الشغل.
وأضاف أنه عندما نقرأ المعدل العالمي نجد أن المغرب في مستويات متدنية مقارنة مع دول أخرى، وبالتالي ليس من العيب أن نلجأ للمديونية المرتبطة باستثمارات ذات قيمة مضافة كبيرة، من أجل خلق الثورة ومحاربة البطالة، ولا يمكننا، حسب المتحدث ذاته، أن نؤدي بها أجور الموظفين أو تغطية تكاليف زيادات الحوار الاجتماعي.
الدين العمومي والاستثمار
واستدل الخبير بالنشرة الشهرية للإحصاءات المالية العامة - لشهر دجنبر 2023 وتحليل الاتجاهات الرئيسية بحلول نهاية دجنبر 2023 وبالمقارنة مع نفس الفترة من عام 2022، الذي يبين زيادة في النفقات الاستثمارية بنسبة 24.2٪.
ومن خلال تحليل الأرقام الواردة في تقرير مصالح وزارة الاقتصاد والمالية لشهر يونيو 2024، لاحظ المحلل زيادة في حجم الاستثمار العمومي بنسبة 10٪، مقارنة مع يونيو 2023، مما يشير إلى ارتفاع في النفقات الحكومية الموجهة للاستثمارات.
وهذا يعني أن الحكومة ساهمت في تمويل العديد من المشاريع الاستثمارية مثل البنية التحتية والتنمية، مما تطلب تمويلاً إضافياً.
وبجانب الزيادة في الاستثمار العمومي، يضيف الخبير، ارتفعت تكاليف نفقات أخرى، مثل خدمة الدين التي زادت بنسبة 9.5٪، والزيادة في تكاليف الأجور والخدمات بنسبة 3,2٪ مما شكل عبئًا إضافيًا على الميزانية العامة، وأثر بشكل مباشر على الدين العمومي.
وأوضح المتحدث ذاته أنه يمكن اعتبر أن عوامل متعددة، بما في ذلك زيادة النفقات الأخرى مثل خدمة الدين والنفقات التشغيلية العامة، بالإضافة إلى التحملات المالية الناجمة عن العجز المالي، ساهمت في زيادة الدين العمومي من 1000 مليار درهم إلى 1016 مليار درهم في نهاية 2023.
ومن جهة أخرى، أشار المحلل الاقتصادي محمد جدري إلى أن الاستثمار العمومي يهيمن على الاستثمار عامة، وهي عملية بطيئة لا تخلق نسب تنمية عالية، بحيث يقدر الاستثمار العمومي بـ30% من الناتج الداخلي الخام مقابل معدل نمو يتراوح بين 2% و3%، في حين أنه في دول أخرى يمكن لهذا الاستثمار العمومي أن يخلق نسب نمو تصل إلى 5%، وهو ما يتطلب التركيز على نجاعة الاستثمارات.
وأضاف جدري أنه خلال السنة الماضية، تركزت استثمارات المملكة على البنية التحتية، حيث يتطلب العائد على الاستثمار في هذا القطاع مدة تصل إلى 15 أو 20 سنة، وبالتالي شدد على أنه يجب التركيز على استثمارات ذات قيمة مضافة كبيرة مثل الطاقات المتجددة وصناعة السيارات والطائرات والسياحة والصناعة التقليدية.
تخفيض الدين العمومي وضبط النفس المالي
بسط أمين سامي، الخبير في التخطيط الاستراتيجي، في حديثه مع موقع "اقتصادكم"، 9 استراتيجيات لتخفيض الدين العمومي والمساهمة في ضبط النفس المالي من أجل الحفاظ على المالية العمومية السليمة:
العمل على تشجيع النمو الاقتصادي:
من خلال زيادة الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة الرقمية والصناعة والتكنولوجيا، والتشجيع على الاستثمار في القطاعات المستقبلية، والقطاعات الواعدة والمستدامة من أجل تحفيز النمو الاقتصادي وزيادة الإيرادات العامة، (الاقتصاد الدائري، اقتصاد البحر، الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، ...)
تشجيع النمو الاقتصادي المستدام:
من خلال تحفيز الاستثمار الخاص، وتحسين مناخ الأعمال وتشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية في القطاعات المنتجة مثل الصناعة، والتكنولوجيا، والزراعة، والسياحة، مما يزيد من الناتج المحلي الإجمالي ويخفف الضغط على المالية العامة.
العمل على تنويع مصادر التمويل سواء الخارجي والداخلي :
من خلال تطوير الأسواق المالية المحلية وتشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بالإضافة يمكن العمل على خلق بورصات جهوية des bourses régionaux على المستوى الجهوي لتحفيز وتحريك الاستثمار والعجلة الاقتصادية والاجتماعية على المستوى الترابي وتحفيز القطاع الخاص المحلي على الاستثمار، بالمقابل يمكن خلق بورصات تخصصية des bourses spécialisées متخصصة في قطاعات اقتصادية معينة، مثل بورصة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني والصناعة الغذائية،...
العمل على تشجيع وتطوير مناخ الأعمال الوطني والترابي :
من خلال تعزيز جاذبية المجال الترابي، وتسهيل الوصول لهذا المجال من خلال توفير البنية التحتية الأساسية والرقمية، تطوير وتحفيز القطاعات الواعدة في المجال الترابي، تطوير الخدمات العمومية المرقمنة وتجويدها سواء للمواطن أو المقاولة.
بث دينامية في الاقتصاد الرقمي ودعم الشركات الناشئة في هذا المجال :
من خلال تحفيز ومواكبة الشركات المشغلة في هذا المجال، والعمل على تطوير منظومة الشركات الناشئة وخلق إطار قانوني وتشريعي ملائم يساهم في تطوير هذه النوعية من المقاولات الناشئة في هذا المجال الحيوي.
تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص (PPP) :
من خلال العمل على تعزيز تمويل المشاريع الكبرى، عن طريق الشراكات بين القطاعين العام والخاص في المشاريع الاستراتيجية والهيكلية الكبرى (بناء الموانئ، المطارات، السكك الحديدية، المناطق الصناعية...)، بالإضافة إلى تطوير نماذج جديدة من الشراكات منها: شراكة قطاع عام قطاع خاص تعاونيات(PPC) في إطار المشاريع الاقتصادية، وشراكة قطاع عام قطاع خاص جمعيات(PPA)، في إطار المشاريع الاجتماعية ومشاريع القرب. والعمل على تحمل جزء من المخاطر، من خلال نقل جزء من المخاطر المالية إلى القطاع الخاص حيث يمكن أن يساعد في تقليل الضغط على الميزانية العامة.
تعزيز التعاون الدولي والإقليمي:
من خلال التحالفات الاستراتيجية مع دول ومؤسسات أخرى لدعم مشاريع مشتركة في مجالات البنية التحتية والطاقة المتجددة.
العمل على تحسين إدارة الدين العمومي:
حيث تحتاج الحكومة إلى تبني استراتيجيات أكثر فعالية ونجاعة لإدارة الدين العمومي، بما في ذلك تحسين التخطيط المالي والبحث عن مصادر تمويل ميسرة.
ضبط النفس المالي:
من خلال تحسين الحكامة المالية وتعزيز الرقابة المالية على مختلف مستويات والقطاعات، وضمان توجيه الأموال نحو الأغراض ذات الأولوية.