اقتصادكم
في إحدى تلك الأيام، رفض صرصار من الصراصير الجري، لمدة تزيد عن الأسبوع، لأن صديقه في المغامرة قضى في حادث، بعد أن أخذ أحد أصدقاءنا المبادرة بإخراجه من العلبة ليشم الهواء قليلا. سحقته البلغة اليسرى للحاج عبد الكريم. كان ممددا كبطل كبير مصلوب، يستحق أن يموت في المكان المخصص لبطولاته بدل أن يموت تحت القدم الثقيلة لأحمق من حمقى الخالق. سيسجد لربع ساعة في مسجد الحي بينما هو من أكبر المنافقين الذين كتب علينا ملاقاتهم خلال سنوات المدرسة.
الحاج عبد الكريم لم يفهم شيئا، عندما سكب علي عشرة كيلو من القذارة مساءا، جمعها من المراحيض العمومية بدور الصفيح المسمى بوعزة، يبدو أن بوعزة هذا كان رثا كبيرا، أتيحت له فرصة للظهور كبطل في موقف بطولي منقطع النظير، وهو ما انقلب لصالحه. كان أبي يعرفه، قال لي بأنه كان مجرد فاشل، وعندما يكون أبي القائل، فإن ما قاله ليس سوى خلاصة كافية كي لا أكن أي احترام لابن العاهرة هذا المسمى بوعزة. مهما يكن، علي ملأ كيسا بلاستيكيا حق امتلائه بالقذارة، بجميع الألوان: الأصفر والأحمر والبني وقذارات الكلاب وأنواع أخرى من القذارات. هكذا حسم علي خلافه مع الحاج. سكب كيسا كبيرا من القذارة أمام الباب المنمق لبيت الرجل الذي دهس صرصاره على طريق المسجد.
المسألة كانت مفهومة، لأن ذلك الصرصور لا يعوض، كان ذا هيئة هائلة، يعامله كصاحب ويطعمه جيدا بالخبز والماء وبعض السكر. انتصر على كل اللاعبين زملاءه، أصبح أسطورة حقيقية في الحي. الجميع يريدون المراهنة عليه، ولكن لأجل السير الجيد للمشروع الصغير، كان علي يؤخر انطلاقه وهو يلوي قدمه قليلا. لكي يخسر بين الفينة والأخرى، ما يعني أنه إذا ربح في كل مرة فإن المشروع سيفشل. بمعنى ما، كان موته حلا لمشكلة كبيرة، أي نعم، بسبب براعة أدائه، هذا الصرصور أصبح يوما بعد يوم تهديدا بالنسبة لنا ولشركتنا الصغيرة. كما تناقص عدد الأطفال المقبلين على اللعبة، لأن اللعب لم يعد مثيرا كما فقد مصداقيته. حتى أن علي لم يكن بإمكانه الغش بإخراج صرصور آخر من اسطبل أقل تجربة.
هذا البطل الكبير كان مميزا جدا حيث كان الجميع يعرفونه من طريقة تحركه، من قرون استشعاره عندما يخرج من العلبة من مظهره الثابت، إذ يلقي بنظرة متعاليه على منافسه في ذلك اليوم. يا له من حضور.أجمل صرصور في الحي، خليط من الصفات، بحيث كانت له تلك الطريقة في الجري، يرفع رأسه قليلا متحديا الحضور، متأكدا من أن الأنظار تلاحقه وحده، أحيانا يحدث أن يتوقف وسط الممر متقدما على منافسه بمسافه جيدة، يلتفت لمعرفة مكان منافسه، وعندما يجد نفسه على نفس الخط مع منافسه، يستأنف الجري، تاركا منافسه الكسول بعيدا في الخلف. الحقيقة، كان مؤسفا أننا لم نعط اسما لهذا الصرصور. اقترح علينا الأطفال ذلك، لكن علي كان دائما يرفض تعميد بطله، البعض أرادوا تسميته (الطيارة)أو (البرق) وآخرون كانوا متأكدين من (لمعلم) هو الاسم المناسب اعترافا منهم ببطولاته.
لكن بالنسبة لنا كان الصرصور الأفضل بين أبناء جنسه، عينة نادرة لا تقدر بثمن. يوما ونحن نقرأ بأن الصراصير صمدت في وجه التجارب النووية، تذكرت ذلك الصرصور الفريد وعرقه النبيل. لا بد أنه كان جزءا من حضانة مختبر ساءت أحواله. مهما يكن، قدم لنا موته خدمة كبيرة، لشركتنا أنا وعلي، حيث استؤنف العمل بشكل جيد. ولكن كحال كل أعمال الاحتيال، لا بد وان تصل إلى لحظة تعجز فيها عن تخطي الحدود. كما أن العقليات تغيرت بشكل سريع، ورفاقنا الذين أعجبوا كثيرا باللعبة، انتهى بهم الأمر إلى الاستسلام لإغراءات أخرى: المخدرات، الحشيش، السجائر، الغراء، المهدئات التي تسمى عندنا بالعامية القرقوبي، وهذه الكلمة هي نوع من المحاكاة الصوتية، التي يقصد بها تلك الحالة التي تصيب مبتلعي هذه الحبوب، حيث يشعرون بالذهول لدرجة تجعلهم يصدرون أصواتا تشبه ضجيج الأواني التي تصطدم بالحائط، أو صوت تصادم المقالي. نعم كان رفاقنا قد غاصوا حتى النخاع في هذه الرحلة واكتشافات عظيمة أخرى عن هذا العالم. لنذهب إلى الجحيم، أنا وعلي وصراصيرنا، ذلك لن يكون عقبة في طريقنا، كنا مضطرين لتغيير المهنة.
مهما يكن، مسابقات الصراصير هذه كانت تعبق برائحة التقوى، بينما حين نصحوني في إحدى الأمسيات، بعد شوط مراهنات جيد، بأن أذهب إلى المسجد، كي أصلي حمدا لله على ازدهار مشروعنا، لم أتردد لحظة. ذهبت لإقامة الصلاة دون وضوء، ظننت أن الوضوء ليس ضروريا، كنت أحمل في جيبي علبتي ثقاب مملوءتين بالصراصير، حتى أنني غامرت بتحريرها بعد نهاية الصلاة، كي أتمشى قليلا في هذا المكان الطاهر وأتشبع من قدسية المكان. لم يكن علي موافقا على أن نكون شركاء، بمعنى أنه كان يعتبر شركة الصراصير ملكه وحده، بينما لست سوى تابع. لكني أخذت زمام المبادرة، خاصة وأن الصراصير كانت قد أحبت الزرابي التي تفوح برائحة البشر اللاذعة والمالحة. سارعت نحو الزوايا محاولة التسلق نحو مكبرات الصوت الموضوعة على بعد مترين، لكي تحث المصلين على طاعة الله ومحبته.
ربما ولدت في ذلك اليوم، هذه الطفرة من التقوى التي طبعت هذه المسابقات، ربما كان ذلك مجرد وهم كبير بسبب رغبتي في رؤية المشروع ينجح، لكن مع ذلك يظل من الغريب أنه خلال لحظات السباق تلك، تم تحديد أجمل ما في حياتي. منذ ذلك الوقت، أقسمت بأن لا أسمح لأحد أبدا بقتل صرصور أمام ناظري. حتى أني غضبت من صديق لي، يرفض أن يفهم بأنه من الممكن أن نحب الصراصير جدا، كان يعتبرها حشرات متسخة، ما اعتبرته حرفيا إهانة في حقي. قلت له بعض الكلام الفارغ ردا على ملاحظته، أن يذهب وينظر إلى نفسه في المرآة ليرى وجهه المرعب القبيح اللعين لقاتل متسلسل في طور التكوين.