مهدي حبشي
مثل طائر العنقاء، نهضت معلمة (زيفاكو)، أو "الكرة الأرضية" كما يحلو للبيضاويين تسميتها، من أنقاضها وسط مدينة الدار البيضاء. فبعد سنوات من النسيان ساء وضعها وأضحت طللاً يقف عليه المفعمون بذاكرة الزمن الجميل في كبرى مدن البلاد. ظهرت بحلة جديدة بهية، وحرص شديد على تلافي أسباب النكسة مُجدداً، رحّب الفضاء بأهل العاصمة الاقتصادية منذ مستهل شهر دجنبر 2021.
إنها قلب المدينة النابض، جغرافياً على الأقل، فهي تتواجد على مستوى وسط الوسط. محور تحوم في فلكه ثلاثة شرايين رئيسية تضخ الحياة في وسط المدينة العملاقة: شوارع الحسن الأول والجيش الملكي ومحمد الخامس. وتبعد بمسافة أمتار عن ساحة الأمم المتحدة التي تعج بالزخم والجلبة على امتداد اليوم.
موقع الكرة الأرضية يحمل أيضاً دلالة رمزية عميقة، إذ يمكن وصفها بصلة الوصل بين عصرين، بجانبها الشمالي تنتصب "المدينة القديمة" بشموخ الماضي وهي تتبجح في سرد قصة وطن طاعن في عمق التاريخ. وجنوبا تسربلت "المدينة الحديثة" بثوب الميتروبول العصري المتطلع إلى صفة "المدينة الذكية".
بيد أن هذا القلب ذي الرمزية الثمينة ظل يشكو من الرجفان حتى لامس السكتة القلبية، حين تحولت المعلمة طيلة أعوام إلى قِبلة تحج إليها النفايات، ومرحاض على الهواء الطلق يقضي فيه المتشردون، الذين يتخذونه فندقاً ليليا ، حاجاتهم البيولوجية حتى غدا ريحه يزكم أنوف المارة.
بعد خمسة أعوام من انطلاق ورش كلف 25 مليون درهم، رحبت الكرة الأرضية ذات صباح مشمس من شهر دجنبر 2021 بزوارها بعد طول فراق. استضافتهم بفضاء للراحة أثاثه مقاعد خشبية مستطيلة الشكل وحديقة غناء. يتيح خدمات حيوية ظل البيضاويون يطالبون بها لأعوام؛ مراحيض عمومية مجانية، لا تترك عذراً لمن لا يتحرجون من قضاء حاجاتهم في العراء.
"ما ذكرتَه غير رهين بتوفير المراحيض، إنها مسألة ذهنيات؛ ألق نظرة على الأرضية، لم يكد ينقضي أسبوع على الافتتاح حتى غزتها أعقاب السجائر وبقايا العلكة وبذور دوار الشمس (الزريعة)، علماً بأن سلات المهملات منتشرة في ربوع المكان، يكفي جهد خطوات لاستخدامها". قال أحد المرتفقين لـ"اقتصادكم"، بنبرة تمتزج فيها النوستالجيا بالحسرة، وهو رجل ستيني شاهد بلا شك على عصر ذي ذهنيات مُختلفة.
العبور الآمن إلى المدينة القديمة، وحراسة مشددة...
خطوات تفصل الحديقة عن الممر تحت الأرضي، حيث يفسح مُجسم الكرة الأرضية المجال لتأمل عنان السماء، وحيث تنتشر بضعة أكشاك يُرتقب أن تُبعث فيها الحياة بأنشطة تجارية في القريب. والأهم من ذلك أن هذا الممر تحت الأرضي ينتهي إلى مَخرجين، يؤدي أحدهما مباشرة إلى "باب مراكش"، مدخل المدينة القديمة، فيغني المارة عن عبور "شارع الجيش الملكي" المكتظ بعربات تسير بسرعة نمو المدينة. الحديث نفسه ينطبق على المنفذ الآخر الذي يُجنب مطبات عبور شارع الحسن الأول.
ما يلفت الانتباه هو حرص الكثيرين على التقاط صور سيلفي ضمن الفضاء وبين مختلف جنباته، هل من سلوك أكثر تعبيراً عن شوق البيضاويين لكرتهم الأرضية وحبورهم بوصالها بعد أمد من الدهر؟
سعياً لتفادي الأسباب التي حتمت الإغلاق وفرضت التدخل الجراحي الأخير، حرص مجلس المدينة على توظيف عدد من رجال الأمن الخاص، لا يقل عددهم عن عشرة رجال، ينتشرون بين ردهات الفضاء وعند مداخل الممر التحت-أرضي، بل حتى أمام باب المراحيض. عيونهم مترقبة مترصدة كالصقور، لا تفوت سلوكاً شاذاً من شأنه إيذاء المكان.
في دردشة مع أحد هؤلاء، أسرّ لـ"اقتصادكم" بأن تعليمات صارمة أعطيت للتصدي لأي عمل تخريبي من شأنه تبديد ما صرف على المعلمة من أموال. "الناس إلى حدود الساعة منضبطون، لكن أكثر ما يزعجنا في الواقع هم الأطفال، ليس لديهم وعي بما يصنعون، يقطفون الزهور ويلقون النفايات، وبعضهم للأسف يكون برفقة والديه اللذين لا يتجشمان عناء الردع والتوعية".
ويضيف المتحدث نفسه بأن مداخل الممر التحت أرضي ستغلق ليلا تفاديا لغزوات المتشردين، وحماية للفضاء التجاري الذي سيفتتح عما قريب.
مرفق صديق لذوي الاحتياجات الخاصة
محادثة "اقتصادكم" مع رجل الأمن الخاص بدأت حين لوح لنا بعدم الجلوس في فضاء يكتسي خصوصية معينة. إنه الممر المخصص لذوي الاحتياجات الخاصة. فبلوغ الحديقة والممر يتطلب نزول درج ليس بمقدور الفئة السالفة تحمله، لذا خُصص لها معبر خاص منبسط.
رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة لا تقف عند هذا الحد، حتى المرحاض العمومي يتضمن مخدعاً خاصاً بهم دون سواهم، مغلق في وجه العموم، مفاتيحه في حوزة حارس أمن خاص يفتحه إذا أقبل عليه معني بالأمر، وهو مجهز على نحو يمكنهم من استخدامه بيسر ينسجم مع حالتهم البدنية.
زيفاكو... مهندس صالح الشرق مع الغرب
كغيرها من معالم مدينة الدار البيضاء تحمل "الكرة الأرضية" هوية مزدوجة، فهي في الذاكرة الشعبية بمسماها سالف الذكر، بينما هي "كوبول زيفاكو" أو "قُبة زيفاكو" في مسماها الرسمي. أطلق عليها هذا الاسم تيمنا بجون فرونسوا زيفاكو، المهندس المعماري الفرنسي-المغربي، بحكم ميلاده سنة 1916 بمدينة الدار البيضاء ووفاته بها عام 2003. إنه الرجل الذي أهدى البيضاويين تلك المعلمة كما عرفوها منذ منتصف القرن الماضي.
اشتهر زيفاكو بموهبته الفريدة في مزج فنون المعمار العربي والإسلامي بالمعمار الأوروبي الحديث، ما أهله للخلود في الذاكرة المعمارية المغربية عبر تشييد عدد مهم من منشآت المغرب الحديث، بمختلف حواضر المملكة. على سبيل المثال لا الحصر: مركز البريد بالدار البيضاء، مبنى المحكمتين الابتدائيتين بالمحمدية وابن احمد، فضلا عن إصلاحية تيط مليل... ونال لأجل منجزاته جائزة "آغا خان" للمعمار عام 1980.