مهدي حبشي
ظهرت ميتافيرس قبل أسابيع، لكن جيل التسعينات لاينسى مسلسل "أبطال الديجيتال"، كرتون الخيال العلمي الذي تنبأ بهجرة الإنسانية إلى العالم "الافتراضي".
بعد 20 عاماً من صدور المسلسل الشهير، تتحقق قصيدة الشاعر المصري عزيز أباظة: "كان حُلماً فخاطراً فاحتمالاً.. ثم أضحى حقيقة لا خيالاً". ذلك على الأقل ما توحي به عملية "شراء الأراضي" التي انطلقت بالفعل بعالم "ميتافيرس".
أعلن مؤسس فيسبوك "مارك زوكربرغ" نهاية أكتوبر الماضي، دخول شركته غمار العوالم الرقمية الموازية (الفي آر)و (الإي آر) ، وتغيير عنوان شركته من "فيسبوك" إلى "ميتا"، في إشارة واضحة للثورة التي يعتزم عملاق التواصل الاجتماعي إطلاقها في مجال الاتصالات الرقمية، بخلق عالم افتراضي متكامل حيث "يُمكن القيام بأي شيء يخطر على البال؛ لقاء الأصدقاء والعائلة، العمل، التعلم، اللعب، التسوق..." على حد تعبير زوكربرغ نفسه.
العارفون بالنفوذ والإمكانيات الضخمة التي تتوفر عليها شركة "ميتا" يدركون أنه قول ما يلبث أن يُطبق على أرض الواقع، فلا يبدو أنهم يأبهون بالمخاوف الوجودية التي تهجس لدى عديد النشطاء الاجتماعيين إزاء عوالم "الواقع المعزز"، بل أكثر ما يغريهم عدم تكرار "غلطة" البتكوين، الذي استُخِف بقدرته على النمو أول الأمر، قبل أن يتحول إلى ثروة حقيقية لمن خاطروا بالاستثمار فيه إبان بداياته.
بمَ يتعلق الأمر؟
ميتافيرس عبارة عن عالم رقمي، يتيح لكل شخص أن يقضي فيه جزء من حياته على شكل جسم افتراضي (أفاتار) أو "هولوغرام". وتتصور شركة "ميتا" أن الاستثمار في هذا العالم من شأنه تجويد تجربة التواصل الاجتماعي عبر الانترنت، وذلك على عدة مستويات مهمة من حياة البشر: (تنظيم اجتماعات العمل، حضور دروس جامعية، المشاركة في تداريب رياضية، التسوق... )
الولوج إلى "العالم الجديد" يتطلب بعض المعدات الحديثة، في مقدمتها ما شوهد خلال حفل تقديم الخطوة العملاقة الأخيرة لفيسبوك في أكتوبر الماضي؛ خوذة إلكترونية ونظارات للواقع المعزّز، والتي تطورها شركة "ميتا" نفسها. يبلغ سعر الواحدة منها في الوقت الراهن 300 دولار (نحو 2800 درهم مغربي).
وحتى يتمكن المستخدم من تحريك شخصيته ضمن ميتافيرس، سيكون في حاجة لجهاز تحكم عن بعد، يشبه إلى حد كبير ذاك الذي يسير أجهزة ألعاب الفيديو، بينما طُرحت فكرة بساط متحرك لأجل التجول ضمن فضاءات العالم الرقمي.
وبالإضافة إلى "ميتا"، فإن كبار الصناعة الإلكترونية يسابقون الزمن للتموقع ضمن سوق المعدات الافتراضية الحديثة، يتعلق الأمر بـ"اتش تي سي" (htc)، "سوني"، فضلاً عن "أبل" التي ستشرع في تسويق منتجاتها انطلاقاً من سنة 2022.
جد لنفسك موطئ قدم بسرعة...
بما أن عالم "ميتافيرس" يتضمن "شتى الأنشطة التي تخطر على البال"، على حد تعبير مارك زوكربرغ، فلا بد أن تزدهر الأنشطة التجارية بداخله، وأن يكون في صلب "الرأسمالية الرقمية" الجديدة. ولأجل ذلك يبدو "الرأسماليون" مستعجلين لتكريس مكانتهم الواقعية ضمن العالم الجديد. تشهد على ذلك عملية شراء "بقعة أرضية" افتراضية على ميتافيرس، من قبل شركة عقارية متخصصة في العالم الافتراضي، ومقابل مبلغ قياسي، مليونا دولار أمريكي. استثمار بهذا الحجم لا يترك مجالا للشك في الأهمية الحيوية التي يُتوقع أن تحظى بها عوالم زوكربرغ الجديدة.
ووفقاً لوسائل إعلام أمريكية، فإن القيمة المرتفعة لتلك البقعة الافتراضية، التي تبلغ مساحتها ما يوازي 566 مترا مربعاً، تُعزى لارتفاع سعر صرف "المانا"، وهي العملة الرقمية لـ "ديسنترالاند" (Decentraland)، أحد أبرز عوالم الواقع الافتراضي في الوقت الراهن. التضخم الذي عرفه سعر صرف تلك العملة، والذي بلغ 25 في المئة في غضون شهر واحد فقط، لا يُشكل سوى مؤشر آخر على أن "الهجرة" إلى العالم الافتراضي قد غدت في المنظور.
شركة "تونكز" التي اقتنت البقعة المذكورة، تضع على عاتقها مسؤولية "ربط المستثمرين بعالم ميتافيرس"، وهي ليست أول المستثمرين في الواقع الافتراضي، إذ سبقتها لذلك شركة "نايك" عبر إنشاء "نايكلاند"، منطقتها الخاصة على ميتافيرس ضمن لعبة "روبلوكس". كما سارت على النهج ذاته منافستها "أديداس"، التي استثمرت في عقار ميتافيرس ضمن عالم آخر يُطلق عليه مسمى "ساندبوكس"، مقابل 1.7 مليون يورو.
الجانب المظلم للقمر
أهي فوبيا الجديد أم الجانب المظلم للقمر؟ فمن عادة الناس أن يتوجسوا من التجديد قبل التطبيع معه تدريجياً، لكن الخبراء والمختصين يقدمون أدلة دامغة تبرر مخاوفهم ليس فقط من عالم ميتافيرس، بل من قيادة شركة زوكربرغ لهذه الثورة.
فـ"ميتا" ومن خلال تجربة "فيسبوك" أبانت عن تقصير شديد في التعامل مع خطابات الكراهية، ومع التنمر الإلكتروني السائدين ضمن موقع التواصل الاجتماعي الشهير.
وفضلا عن ذلك، يطرح المتابعون تساؤلات قلقة حول الرقابة التي من شأن "ميتا" ممارستها على الزوار على نحو مستمر ضمن العالم الافتراضي، وتحليل شخصياتهم تحت غطاء الاستهداف الإشهاري، وهو ما يؤدي لمعضلات خطيرة تصل حد توفير بيئة فخمة للنصب والاحتيال والتجارة في البشر، ضمن واقع مازال مفتقراً لقوانين صارمة تزجر هذه الممارسات.
وكانت فرانسيس هوغن، التي اشتغلت مهندسة لدى شركة "ميتا"، واشتهرت بعد تسريبها مجموعة من المعطيات الخطيرة بشأن الشركة واتهامها أمام مجلس الشيوخ الأمريكي بإلحاق الضرر بالمستخدمين، وفي مقدمتهم الأطفال والمراهقون، قد صرحت لوسائل إعلام أمريكية ما مفاده ان: "ميتا تضع الربح على رأس أولوياتها وإن كان على حساب سلامة المستخدمين".
وترى هوغن أن الإعلان (المتسرع) لمارك زوكربرغ عن خططه المستقبلية، يأتي في إطار استراتيجيته لتوجيه الرأي العام وصرفه عن الخوض في الانتقادات التي تطال الأنشطة الراهنة للشركة.