*د. البزيم رشيد
شهد مطلع التسعينيات انتصار الرأسمالية والشروع في تحرير الأسواق، لدمج اقتصادات الدول العربية في الاقتصادات العالمية خارجيًا، مع بروز نزعة دولية في اتجاه الخوصصة.
واتجهت الدول العربية راغبة أو مُجبرة إلى مضاعفة اعتمادها على القطاع الخاص. وتزايد الضغط في هذا الاتجاه، مع صعود "إجماع واشنطن" الداعي إلى تحرير قطاع التجارة وخوصصة منشآت الدولة، وتنويع مصادر الموارد العمومية.
وعلى هذا الأساس، برزت تيارات في المنطقة العربية، تدعو لتراجع دور الدولة والحد من سياساتها التدخلية، والتوجه نحو إنشاء هيئات وتنظيمات "مستقلة" تضبط وتنظم آليات اشتغال السوق، كما هو حال أجهزة وهيئات المنافسة؛ وهيئات التقنين القطاعي.
في 2001 تم إنشاء شبكة المنافسة الدولية من قبل سلطات المنافسة لـ 14 بلدا فقط، أما اليوم، فأصبحت تضم أكثر من 130 عضوا. ويعزى هذا النمو السريع إلى ولوج قانون المنافسة إلى الأنظمة القانونية للعديد من البلدان، التي كانت تفتقر إلى ذلك من قبل.
وشجع اعتماد تشريعات الحد من الاحتكار، على الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق. كما أن الاعتقاد السائد بكون المنافسة قد تشكِّلُ أحد المحركات الرئيسية للرفع من الأداء الاقتصادي، عزز من عوامل الانتقال الاقتصادي ودعم البنية التنافسية للسوق، إذ دعا البنك الدولي سنة 2019 إلى تدعيم قوانين حماية المنافسة وهيئات إنفاذ السياسات التي تشجع المنافسة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما ذكر أن غياب المنافسة العادلة يعوق تنمية القطاع الخاص بالمنطقة.
ويقصد بالمنافسة أن " الأطراف المشاركة في السوق هي في الوقت ذاته متحركة، بمعنى أنها تمارس إرادتها بحرية، ومنتشرة، وهذا يعني أنها غير مجمعة فيما بينها"، ويمكن تعريف "نظام المنافسة" بأنه مجموعة مركبة من الخصائص التي تتعلق بمحظورات ومقتضيات تشريعات المنافسة، والهيئات المكلفة بتنفيذها على أرض الواقع، والأسلوب الذي تنتهجه لإنجاز مهمتها.
والواقع أن هناك العديد من التوليفات، إذ تختلف أنظمة المنافسة تبعا للأنظمة القانونية للدول. لكن هذا لا ينفي وجود عناصر مشتركة، خصوصا فيما يتعلق بالقواعد الموضوعية التي تنظم الممارسات المنافية للمنافسة.
في الواقع، تظهر العديد من الأدبيات الاقتصادية أن المنافسة يمكن أن تعزز نمو الإنتاجية. وتتناول المزيد من البحوث المتخصصة العلاقة بين سياسة المنافسة والأداء الاقتصادي وتشير هذه المساهمات إلى أن سياسة المنافسة تلعب دورًا هامًا في تحريك دواليب الحياة الاقتصادية. غير أنها تشير أيضًا إلى أن مجرد وجود قواعد لحماية المنافسة لا يكفي للوصول للنتائج المرجوة. فما هو ضروري اليوم هو سياسة المنافسة "الجيدة" التي ترتكز على أسس متينة، وتترسخ مبادئها لدى مختلف الفاعلين.
في المنطقة العربية، لم تسن لبنان وليبيا وفلسطين وموريتانيا تشريعات تنظم المنافسة وتحد من الاحتكار. وكانت البحرين آخر الدول العربية التي قامت بوضع قانون يخص المنافسة سنة 2018، بعد سلطنة عمان التي أصدرت قانون حمایة المنافسة ومنع الاحتكار سنة 2014. كما تفتقر العراق والبحرين إلى سلطة للمنافسة منوط بها تنفيذ القوانين الموجودة مسبقا.
في المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، تم إصدار قانون جديد في 2019 يتعلق بتنظيم المنافسة. حيث سيعمل على إصلاح التجربة السعودية لحماية المنافسة ومحاربة الاحتكار التي رأت النور منذ ما يقرب من 15 عامًا. ويهدف التشريع الجديد إلى جذب الاستثمارات خاصة الأجنبية المباشرة، في وقت تتطلع فيه إلى تنويع اقتصادها من خلال تقليل الاعتماد على النفط الخام الذي دام عقودًا. وبموجب ذلك ستحصل الهيئة العامة للمنافسة على صلاحيات واستقلالية أكبر للتدخل، واتخاذ التدابير اللازمة عند التعامل مع الانتهاكات.
على مستوى الإمارات العربية المتحدة، اهتمت الحكومة الاتحادية بإصدار القانون الاتحادي رقم 4 لسنة 2012 بشأن المنافسة، ولائحته التنفيذية، وتشكيل لجنة تنظيم المنافسة وفق قرار من مجلس الوزراء، وما تلاها من قرارات منظمة بشأن الضوابط والنسب المرتبطة بتطبيق القانون. وهدف إلى تعزيز الاستثمارات القائمة وجذب استثمارات خارجية جديدة فضلا عن تحقيق مستوى متقدم في مجال حماية المستهلك وحماية حقوق الملكية الفكرية.
أما في مصر، فقد اعتنت الحكومة بوضع تشريع للمنافسة منذ سنة 2005. وعرف، في حينه، نقاشات طويلة وعراقيل كبيرة قبل صدوره. ومع الممارسة ثبت ان به ثغرات مهمة، ادت إلى اعتماد تعديلات عليه سنة 2008.
وفي المغرب، أصبح القانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة ساري المفعول منذ بداية عام 2001، حيث إنه شكّل جزءا من برنامج تدريجي، بدأ في عام 1990، لفتح مجموعة متنامية من القطاعات الاقتصادية للمنافسة، وتحديث المنظومة الاقتصادية وتحسين القدرة التنافسية لمؤسسات النسيج الوطني. غير أن تفعيل دور مجلس المنافسة لم يشرع فيه إلا ابتداء من 2008. وعموما، فقوانين المنافسة لدول المغرب العربي (المغرب، تونس والجزائر) مستقاة بشكل كبير من القانون الفرنسي والأوربي للمنافسة.
وتسعى العديد من الدول العربية إلى زيادة الاهتمام بتطوير أنظمة المنافسة، لما لها من آثار هامة في جلب الاستثمارات، وهو ما يبرزه البحث في ضوء دراسة الملامح العامة لتجارب هذه الدول في مجال المنافسة.
وهكذا فالسؤال الذي ينبغي أن يطرح، يتعلق بالهندسة "النموذجية" لنظام سياسة المنافسة، من أجل تحقيق الأهداف المنشودة بفعالية. غير أن فعالية سياسة المنافسة، لا تعتمد فقط على ما هو معياري بشكل حصري، بل على الخصائص الأخرى للمحيط السوسيواقتصادي الناشئة فيه.
ولا يمكن معالجة هذا الموضوع دون التطرق للسياق الأوسع، الذي يتم فيه إنشاء أنظمة مكافحة الاحتكار والممارسات المنافية للمنافسة. ويشير تحليل القواعد المعيارية إلى أنه لا يمكن تحديد الخصائص المطلوبة للأجهزة التي تعمل على التنفيذ الأمثل لسياسة المنافسة، إلا بمراعاة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية لكل بلد.
أستاذ القانون العام*
أعده بتصرف د. كنانة السعيد